الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **
قوله: " باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت ". عقد المؤلف هذا الباب لما تضمنه هذا الحديث من كمال سلطان الله وكمال جوده وفضله، وذلك من صفات الكمال. قوله: " اللهم ". معناه: يا الله، لكن لكثرة الاستعمال حذفت يا للنداء وعوض عنها الميم، وجعل العوض في الآخر تيمنًا بالابتداء بذكر الله. قوله: " اغفر لي ". المغفرة: ستر الذنب مع التجاوز عنه، لأنها مشتقة من المغفر، وهو ما يستر به الرأس للوقاية من السهام، وهذا لا يكون إلا بشيء ساتر واق، ويدل له قول الله عز وجل للعبد المؤمن حينما يخلو به ويقرره بذنوبه يوم القيامة: قوله: " إن شئت ". أي: أن شئت أن تغفر لي فاغفر، وإن شئت فلا تغفر. في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ولمسلم: قوله: " في الصحيح ". سبق الكلام على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف، والمراد هنا الحديث الصحيح، لأن الحديث في " الصحيحين " كليهما. قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا يقل أحدكم). لا ناهية بدليل جزم الفعل بعدها. قوله: " اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني ". ففي الجملة الأولى: " أغفر لي " النجاة من المكروه، وفي الثانية: " ارحمني ".الوصول إلى المطلوب، فيكون هذا الدعاء شاملًا لكل ما فيه حصول المطلوب وزوال المكروه. قوله: " ليعزوم المسألة ". اللام الأمر، ومعني عزم المسألة: أن لا يكون في تردد بل يعزم بدون تردد ولا تعليق. و"المسألة ": السؤال، أي: ليعزم في سؤاله فلا يكون مترددًا بقوله: إن شئت. قوله: " فإن الله لا مكره له ". تعليل للنهي عن قول: " اللهم أغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت "، أي: لا أحد يكرهه على ما يريد فيمنعه منه، أو ما لا يريد فيلزمه بفعله، لأن الأمر كله لله وحده. والمحظور في هذا التعليق من وجوه ثلاثة: الأول: أنه يُشعر بأن الله له مكره على الشيء وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه، فكأن الداعي بهذه الكيفية يقول: أنا لا أكرهك، إن شئت فاغفر وإن شئت فلا تغفر. الثاني: أن قول القائل: "إن شئت" كأنه يرى أن هذا أمر عظيم على الله فقد لا يشابه لكونه عظيمًا عنده، ونظير ذلك أن تقول لشخص من الناس والمثال للصورة بالصورة لا للحقيقة بالحقيقة، أعطني مليون ريال إن شئت، فإنك إذا قلت له ذلك، ربما يكون الشيء عظيمًا يتثاقله، فقولك: إن شئت، لأجل أن تهون عليه المسألة، فالله عز وجل لا يحتاج أن تقول له: إن شئت، لأنه سبحانه وتعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه". قوله: "وليعظم الرغبة"، أي: ليسأل ما شاء من قليل وكثير ولا يقل: هذا كثير لا أسال الله إياه، ولهذا قال: " فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه"، أي: لا يكون الشيء عظيمًا عنده حتى يمنعه ويبخل به سبحانه وتعالى كل شيء يعطيه، فإنه ليس عظيمًا عنده، فالله عز وجل يبعث الخلق بكلمة واحدة، وهذا أمر عظيم، لكنه يسير عليه، قال تعالى: {قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئن بما عملتم وذلك على الله يسير} [التغابن: 7] وليس بعظيم، فكل ما يعطيه الله عز وجل لأحد من خلقه فليس بعظيم يتعاظمه، أي: لا يكون الشيء عظيمًا عنده حتى لا يعطيه، بل كل شيء عنده هين. الثالث: أنه يشعر بأن الطالب مستغن عن الله، كأنه يقول: إن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعل لا يهمني، ولهذا قال: " وليعظم الرغبة "، أي: يسأل برغبة عظيمة، والتعليق ينافي ذلك، لأن المعلق للشيء المطلوب يشعر تعليقه بأن مستغن عنه، والإنسان ينبغي أن يدعوا الله تعالى وهو يشعر أنه مفتقر إليه غاية الأفتقار، وأن الله قادر على أن يعطيه ما سأل، وأن اله ليس يعظم عليه شيء، بل هو هين عليه، إذا من آداب الدعاء أن لا يدعو بهذه الصيغة، بل يجزم فيقول: اللهم إغفر لي، الهم ارحمني، اللهم وفقني، وما أشبه ذلك، وهل يجزم بالإجابة؟ الجواب: إذا كان الأمر عائدا إلى قدرة الله، فهذا يجب أن يجزم بأن الله قادر على ذلك، قال الله تعالى: أما من حيث دعائك أنت باعتبار ما عندك من الموانع، أو عدم توافر الأسباب، فإنك قد تتردد في الإجابة، ومع ذلك ينبغي أن تحسن الظن بالله، لأن الله عز وجل قال ومنها أن يدعو بما لا يمكن شرعًا أو قدرًا: فشرعًا كأن يقول: اللهم اجعلني نبيًا. وقدرًا بأن يدعو الله تعالى بأن يجمع بين النقيضين، وهذا أمر لا يمكن، فالاعتداء بالدعاء مانع من إجابته، وهو محرم، لقوله تعالى: * مناسبة الباب للتوحيد: من وجهين: 1. من جهة الربوبية، فإن من أتى بما يشعر بأن الله له مكره لم يقم بتمام ربو بيته تعالى، لأن من تمام الربوبية أنه لا مكره له، بل إنه لا يسأل عما يفعل، كما قال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23]. وكذلك فيه نقص من ناحية الربوبية من جهة أخرى وهو أن الله يتعاظم الأشياء التي يعطيها فكان فيه قدح في جوده وكرمه. 2. من ناحية العبد، فإنه يشعر باستغنائه عن ربه، وهذا نقص في توحيد الإنسان، سواء من جهة الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات، ولهذا ذكره المصنف في باب الذي يتعلق بالأسماء والصفات. فإن قلت: ما الجواب عما ورد في دعاء الاستخارة: " اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم ! إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به "1؟ وكذا ما ورد في الحديث المشهور فالجواب: أنني لم أعلق هذا بالمشيئة، ما قلت: فاقدره لي إن شئت، لكن لا أعلم أن هذا خير لي أو شر والله يعلم، فأقول: إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي فاقدره لي، فالتعليق فيه لأمر مجهول عندي لا أعلم هل هو خير لي أو لا؟ وكذا بالنسبة للحديث الآخر، لأن الإنسان لا يعلم هل طول حياته خير أو شر؟ ولهذا كره أهل العلم أن تقول للشخص: أطال الله بقاءك، لأن طول البقاء لا يعلم، فقد يكون خيرًا، وقد يكون شرًا، ولكن يقال: أطال الله بقاءك على طاعته وما أشبه ذلك حتى يكون الدعاء خيرًا بكل حال، وعلي هذا، فلا يكون في حديث الباب معارضة لحديث الاستخارة ولا حديث: لكن لو قال: اللهم أغفر لي إن أردت وليس إن شئت، فالحكم واحد لأن الإرادة هنا كونية، فهي بمعني المشيئة، فالخلاف باللفظ لا يعتبر مؤثرًا بالحكم. * فيه مسائل: الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء. الثانية: بيان العلة في ذلك الثالثة: قوله: " ليعزم المسألة ". الرابعة: إعظام الرغبة. الخامسة: التعليل لهذا الأمر. فيه مسائل: * الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء والمراد بالاستثناء هنا الشرط، فإن الشرط يسمي استثناء بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لضباعة بنت الزبير * الثانية: بيان العلة في ذلك. وقد سبق أنها ثلاث علل: 1. أنها تشعر بأن الله له مكره، والأمر ليس كذلك. 2. أنها تشعر بأن هذا أمر عظيم على الله قد يثقل عليه ويعجز عنه، والأمر ليس كذلك. 3. أنها تشعر باستغناء الإنسان عن الله، وهذا غير لآئق وليس من الأدب. * الثالثة: قوله: " ليعزم المسألة ". تفيد أنك إذا سألت فاعزم ولا تردد. * الرابعة: إعظام الرغبة. لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: * الخامسة: التعليل لهذا الأمر. يستفاد من قوله: وفي ذكر علة الحكم فوائد: الأولى: بيان سمو هذه الشريعة، وأنه ما من شيء تحكم به إلا وله علة وحكمة. الثانية: زيادة طمأنينة الإنسان، لأنه إذا فهم العلة مع الحكم اطمأن، ولهذا آما سئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع الرطب بالتمر لم يقل حلال أو حرام، بل قال: والرجل الذي قال: إن آمراتي ولدت غلامًا أسود لم يقل ـ صلى الله عليه وسلم ـ الولد لك، بل قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق الأورق: الأشهب الذي بين البياض والسواد؟ قال: نعم. قال: من أين؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: لعل ابنك نزعة عرق) ، فاطمأن، وعرف الحكم، وأن هذا هو الواقع، فقرن الحكم بالعلة يوجب الطمأنية ومحبة الشريعة والرغبة فيها. الثالثة: القياس إذا كانت المسألة في الحكم من الأحكام، فليحق بها ما شراكها في العلة.
***
|